كتاب كليله و دمنه
قام بين يديه وقال إن أول ما أقول أن أسأل إله بقاء الملك على الأبد ودوام ملكه على الأمد فقد جعل في مقامي هذا شرفا لي على من يأتي بعدي من العلماء وذكرا باقيا على الدهور عند الحكماء إذ أقبل الملك علي بوجهه وعطف علي بكرمه. والأمر الذي حملني على الدخول إلى الملك ودعاني إلى التعرض لكلامه المخاطرة بالإقدام على نصيحته التي اختصصته بها دون غيره. وسيعلم من يتصل به ذلك أني لم أقعد عن غاية فيما يجب للملوك على الحكماء. فإن فسح في كلامي ورعاه عني فهو حقيق بما يراه في ذلك. وإن ألقاه فقد بلغت ما يجب علي وخرجت علي من لوم يلحقني.
نصيحة بيدبا للملك دبشليم
فقال بيدبا أيها الملك إني وجدت الأمور التي يختص بها الإنسان من بين سائر الحيوان أربعة وفيها جماع كل ما في العالم وهي الحكمة والعفة والعقل والعدل. فالعلم والأدب والروية داخلة في باب الحكمة. والحلم والصبر والرفق والوقار داخلة في باب العقل. والحياء والكرم والصيانة والأنفة داخلة في باب العفة. والصدق والمراقبة والإحسان وحسن الخلق داخلة في باب العدل. فهذه هي المحاسن وأضدادها هي المساوئ. فهي إن كملت في واحد لم تخرجه الزيادة في نعمته إلى سوء حظ في دنياه أو إلى نقص من عقباه ولم يتأسف على ما لم يغن التوفيق ببقائه ولم يحزنه ما تجري به المقادير في ملكه ولم يندهش عند مكروه يفدحه. والحكمة كنز لا يفنى مع الإنفاق وذخيرة لا يضرب لها بالأملاق وحلة لا تخلق جدتها ولذة لا تتصرم مدتها. إن كنت عند مقامي بين يدي الملك أمسكت عند ابتدائه فإن ذلك لم يكن مني إلا لهيبة منه وإجلال. ولعمري إن الملوك لأهل لأن يهابوا ولا سيما من هو في المنزلة التي حل فيها الملك عن منازل الملوك قبله.
فأقول أيها الملك إنك في منازل آبائك من الملوك وأجدادك من الجبابرة الذين أنشأوا المدن قبلك ودانت لهم الأرض وبنوا القلاع وقادوا الجيوش واستحضروا العدة وطالت لهم المدة واستكثروا من السلاح والكراع وعاشوا الدهور في الغبطة والسرور فلم يمنعهم ذلك من اكتساب الجميل ولا قطعهم عن اغتنام الشكر فيما خولوه وحسن السيرة فيما تقلدوه مع عظم ما كانوا فيه من عزة الملك وسكرة الاقتدار.
فإنك أيها الملك السعيد جده الطالع في الكواكب سعده قند ورثت أرضهم وديارهم وأموالهم التي كانت عندهم فأقمت فيما خولك الله من الملك وورثت الأموال